فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويدُلّ على الخلاف في ذلك قول أبي هريرة: مالي أراكم عنها مُعرِضين واللَّهِ لأرمينّكم بها؛ هذا أو نحوه.
أجاب الأوّلون فقالوا: القضاء بالمِرْفَق خارج بالسنّة عن معنى قوله عليه السلام: «لا يحلّ مالُ امرئ مُسلمٍ إلا عن طيب نفسٍ منه» لأن هذا معناه التّمليك والاستهلاك وليس المِرْفَق من ذلك؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد فَرقَ بينهما في الحكم.
فغير واجب أن يُجَمع بين ما فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحكَى مالك أنه كان بالمدينة قاض يقضي به يُسمّى أبو المطلب.
واحتجوا من الأثر بحديث الأعمش عن أنس قال: استُشْهد منا غلام يوم أُحد فجعلت أُمّه تمسح التّراب عن وجهه وتقول: أبشرْ هنيئًا لك الجنة؛ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «وما يُدْريك لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه ويمنع ما لا يضره» والأعمش لا يصحّ له سَماعٌ من أنس، والله أعلم. قاله أبو عمر.
وَرَد حديثٌ جَمَع النبي صلى الله عليه وسلم فيه مرافق الجار، وهو حديث: معاذ بن جبل قال: قلنا يا رسول الله، ما حقّ الجار؟ قال: «إن استقرضك أقرضتَه وإن استعانك أعنته وإن احتاج أعطيته وإن مرِض عدته وإن مات تبعت جنازته وإن أصابه خير سرّك وهنّيْتَه وإن أصابته مصيبة ساءتك وعزّيتَه ولا تؤذه بقُتَارِ قِدْرِك إلا أن تَغْرِفُ له منها ولا تستطِلْ عليه بالبناء لتُشرِف عليه وتسدّ عليه الريح إلا بإذنه وإن اشتريت فاكهة فأهدِ له منها وإلا فأدخِلْها سرًّا لا يخرج وَلَدُك بشيء منه يغِيظون به وَلَدَه وهل تفقهون ما أقول لكم لن يُؤدّي حقّ الجار إلا القليل ممن رَحِمَ الله» أو كلمة نحوها.
هذا حديث جامع وهو حديث حَسَن، في إسناده أبو الفضل عثمان بن مطر الشيباني غير مَرْضِيّ.
قال العلماء: الأحاديث في إكرام الجار جاءت مُطْلقَةً غيرَ مقيّدة حتى الكافر كما بيّنا.
وفي الخبر قالوا: يا رسول الله أنطعمهم من لحوم النُّسُك؟ قال: «لا تُطعِموا المشركين من نُسُك المسلمين» ونهيه صلى الله عليه وسلم عن إطعام المشركين من نسك المسلمين يحتمل النّسك الواجب في الذمة الذي لا يجوز للنّاسك أن يأكل منه ولا أن يُطعِمه الأغنياء؛ فأما غير الواجب الذي يُجزيه إطعام الأغنياء فجائز أن يطعمه أهل الذمة.
قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لعائشة عند تفريق لحم الأضْحِيَة: «ابدئي بجارنا اليهودي» ورُوِي أن شاةً ذُبحت في أهل عبد الله بن عمرو فلما جاء قال: أهديتم لجارنا اليهودي؟ ثلاث مرات سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورّثه». اهـ. بتصرف يسير.

.قال الفخر:

النوع التاسع: قوله: {والصاحب بالجنب} وهو الذي صحبك بأن حصل بجنبك إما رفيقا في سفر، وإما جارا ملاصقا، وإما شريكا في تعلم أو حرفة، وإما قاعدا إلى جنبك في مجلس أو مسجد أو غير ذلك، من أدنى صحبة التأمت بينك وبينه، فعليك أن ترعى ذلك الحق ولا تنساه وتجعله ذريعة إلى الإحسان.
قيل: الصاحب الجنب: المرأة فإنها تكون معك وتضجع إلى جنبك. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {والصاحب بالجنب} أي الرفيق في السفر.
وأسند الطّبري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معه رجل من أصحابه وهما على راحلتين، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم غَيْضة، فقطع قضيبين أحدهما معوج، فخرج وأعطى لصاحبه القَوِيمَ؛ فقال: كنت يا رسول الله أحقَّ بهذا! فقال: «كلاّ يا فلان إن كل صاحب يصحب آخر فإنه مسؤول عن صحابته ولو ساعةً من نهار». وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: للسَّفر مُرُوءةٌ وللحضَر مُروءةٌ؛ فأما المروءة في السّفر فبذل الزاد، وقلّة الخلاف على الأصحاب، وكثرة المِزاح في غير مَساخط الله.
وأما المروءة في الحضَر فالإدمان إلى المساجد، وتلاوة القرآن وكثرة الإخوان في الله عزّ وجلّ.
ولبعض بني أسد وقيل إنها لحاتم الطائي:
إذا ما رفيقي لم يكن خلفَ ناقتي ** له مركب فضلًا فلا حمِلت رِجلي

ولم يك من زادي له شطرُ مِزوَدِي ** فلا كنت ذا زادٍ ولا كنت ذا فضلِ

شريكان فيما نحن فيه وقد أرى ** عليّ له فضلًا بما نال من فضلي

وقال عليّ وابن مسعود وابن أبي لَيْلَى: {والصاحب بالجنب} الزوجة.
ابن جُريج: هو الذي يصحبك ويلزمك رجاءَ نفعك.
والأوّل أصح؛ وهو قول ابن عباس وابن جُبير وعِكرمة ومجاهد والضحاك.
وقد تتناول الآية الجميع بالعموم. والله أعلم. اهـ.

.قال الطبري:

والصواب من القول في تأويل ذلك عندي: أن معنى: {الصاحب بالجنب}، الصاحب إلى الجنب، كما يقال: فلان بجَنب فلان، وإلى جنبه، وهو من قولهم: جَنَب فلانٌ فلانًا فهو يجنُبُه جَنْبًا، إذا كان لجنبه. ومن ذلك: جَنَب الخيل، إذا قاد بعضها إلى جنب بعض. وقد يدخل في هذا: الرفيقُ في السفر، والمرأة، والمنقطع إلى الرجل الذي يلازمه رجاءَ نفعه، لأن كلهم بجنب الذي هو معه وقريبٌ منه. وقد أوصى الله تعالى بجميعهم، لوجوب حق الصاحب على المصحوب.
فإذ كان الصاحب بالجنب، محتملا معناه ما ذكرناه: من أن يكون داخلا فيه كل من جَنَب رجلا بصحبةٍ في سفر، أو نكاح، أو انقطاع إليه واتصال به ولم يكن الله جل ثناؤه خصّ بعضَهم مما احتمله ظاهر التنزيل فالصواب أن يقال: جميعهم معنيّون بذلك، وكلهم قد أوصى الله بالإحسان إليه. اهـ. بتصرف يسير.

.قال الفخر:

النوع العاشر: قوله: {وابن السبيل} وهو المسافر الذي انقطع عن بلده، وقيل: الضيف. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وابن السبيل} قال مجاهد: هو الذي يجتاز بك مارًّا.
والسبيل الطريق؛ فنُسِب المسافر إليه لمروره عليه ولزومه إياه.
ومن الإحسان إليه إعطاؤه وإرفاقه وهدايته ورشده. اهـ.

.قال الطبري:

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: {ابن السبيل}، هو المسافر الذي يجتاز مارًا.
وقال آخرون: هو الضيف.
والصواب من القول في ذلك: أن {ابن السبيل}، هو صاحب الطريق والسبيل: هو الطريق، وابنه: صاحبه الضاربُ فيه فله الحق على من مرّ به محتاجًا منقطَعًا به، إذا كان سفره في غير معصية الله، أن يعينه إن احتاج إلى معونة، ويضيفه إن احتاج إلى ضيافة، وأن يحمله إن احتاج إلى حُمْلان. اهـ. بتصرف يسير.

.قال ابن عاشور:

{وابن السبيل} هو الغريب المجتاز بقوم غيرَ نَاو الإقامة، لأنّ من أقام فهو الجار الجُنب.
وكلمة (ابن) فيه مستعملة في معنى الانتساب والاختصاص، كقولهم: أبو الليل، وقولهم في المثل: أبوها وكيَّالُها.
والسبيل: الطريق السابلة، فابن السبيل هو الذي لازمَ الطريق سائرًا، أي مسافرًا، فإذا دخل القبيلة فهو ليس من أبنائها، فعرَّفوه بأنه ابن الطريق، رمى به الطريق إليهم، فكأنّه وَلَدَه.
والوصاية به لأنّه ضعيف الحيلة، قليل النصير، إذ لا يهتدي إلى أحوال قوم غير قومه، وبلد غير بلده. اهـ.

.قال الفخر:

النوع الحادي عشر: قوله: {وَمَا مَلَكَتْ أيمانكم}.
واعلم أن الإحسان إلى المماليك طاعة عظيمة، روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ابتاع شيئا من الخدم فلم توافق شيمته شيمته فليبع وليشتر حتى توافق شيمته شيمته فإن للناس شيما ولا تعذبوا عباد الله». وروي أنه عليه الصلاة والسلام كان آخر كلامه: «الصلاة وما ملكت أيمانكم» وروي أنه كان رجل بالمدينة يضرب عبده، فيقول العبد أعوذ بالله ويستمعه الرسول عليه السلام، والسيد كان يزيده ضربا، فطلع الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: أعوذ برسول الله فتركه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله كان أحق أن يجار عائذه» قال يا رسول الله فإنه حر لوجه الله، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: «والذي نفس محمد بيده لو لم تقلها لدافع وجهك سفع النار».
واعلم أن الإحسان إليهم من وجوه:
أحدها: أن لا يكلفهم ما لا طاقة لهم به، وثانيها: أن لا يؤذيهم بالكلام الخشن بل يعاشرهم معاشرة حسنة، وثالثها: أن يعطيهم من الطعام والكسوة ما يحتاجون إليه.
وكانوا في الجاهلية يسيئون إلى المملوك فيكلفون الإماء البغاء، وهو الكسب بفروجهن وبضوعهن.
وقال بعضهم: كل حيوان فهو مملوك، والإحسان إلى الكل بما يليق به طاعة عظيمة.
واعلم أن ذكر اليمين تأكيد وهو كما يقال: مشت رجلك، وأخذت يدك، قال عليه الصلاة والسلام: «على اليد ما أخذت» وقال تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أنعاما} [يس: 71]. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أمر الله تعالى بالإحسان إلى المماليك، وبيّنَ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم؛ فَروى مسلم وغيره عن المعْرُور بن سُوَيْد قال: مررنا بأبي ذَرٍّ بالرّبَذة وعليه بُردُ وعلى غلامه مثله، فقلنا: يا أبا ذر لو جمعت بينهما كانت حُلّة؛ فقال: إنه كان بيني وبين رجل من إخواني كلام، وكانت أُمّه أعجمية فعيرته بأُمّه، فشكاني إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلقيت النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أبا ذَرٍّ إنك امرؤ فيك جاهلية» قلت: يا رسول الله، مَن سَبّ الرجال سبّوا أباه وأُمّه.
قال: «يا أبا ذَرٍّ إنك امرؤ فيك جاهلية هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم فأطعموهم مما تأكلون وألبِسوهم مما تلبَسون ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعِينوهم».
وروي عن أبي هريرة أنه ركب بغلة ذات يوم فأردف غلامه خلفه، فقال له قائل: لو أنزلته يسعى خلف دابتك؛ فقال أبو هريرة: لأن يسعى معي ضِغثان من نارٍ يحرقان مني ما أحرقا أحبّ إليّ من أن يسعى غلامي خلفي.
وخرّج أبو داود عن أبي ذَرٍّ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن لاَيَمَكُمْ مِن مملوكيكم فأطعموه مما تأكلون واكسوه مما تكتسون ومن لا يُلايمكم منهم فبيعوه ولا تعذبوا خلق الله».
لايمكم وافقكم. والملايمة الموافقة.
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «للمملوك طعامه وكِسوته ولا يُكلَّف من العمل إلا ما يطيق» وقال عليه السلام: «لا يقل أحدكم عبدي وَأَمَتي بل لِيَقُل فتَايَ وفَتَاتِي» وسيأتي بيانه في سورة يوسف عليه السلام.
فندب صلى الله عليه وسلم السادة إلى مكارم الأخلاق وحضّهم عليها وأرشدهم إلى الإحسان وإلى سلوك طريق التواضع حتى لا يروا لأنفسهم مزية على عبيدهم، إذ الكل عبيد الله والمال مال الله، لكن سخّر بعضهم لبعض، وملَّك بعضهم بعضًا إتمامًا للنعمة وتنفيذًا للحكمة؛ فإن أطعموهم أقلّ مما يأكلون، وألبسوهم أقل مما يلبسون صفة ومقدارًا جاز إذا قام بواجبه عليه.